احتراف البذاءة !
انتشرت في الفترة الأخيرة ظاهرة أظنها غير صحية للوسط الأدبي، ألا وهي ظاهرة "افتراس" النقاد على صفحات الفيس بوك، بحجة أنهم "يشوهون" الوسط الأدبي وبحجة أخرى أجدها شديدة السذاجة ألا وهي "النفسنة" (هل هذه حجه أصلا؟!).
ووصل الأمر ببعض الكتاب لاتهام كاتب/ناقد ما –دون ذكر اسمه- بعدم الرقي فقط لكونه عبر عن رأيه بمنتهى الصراحة (والصراحة بتزعل اليومين دول) في عدد من الكتابات الركيكة المنتشرة بفظاعة هذه الأيام، وقد قرأت تلك الآراء ولم أجد فيها ذلك التجريح الذي يتحدثون عنه .. بل كانت آراءه كلها منصبة على العمل الأدبي وهذا من حق الكاتب/القاريء تماما .. وما أدهشني أكثر ودفعني دفعا لكتابة هذا المقال هو هجوم الكاتب نبيل فاروق –الذي يعتبره الشباب خطا أحمر- على صاحب تلك الآراء .. والسعادة غير العادية والتطبيل غير المنطقي للشباب لما فعله الدكتور نبيل فاروق .. وهو أمر أربكني بشدة .. فعندما أتصفح كتابات نبيل فاروق –الأخيرة منها على وجه الخصوص– أجدها أعمالا ضعيفة المستوى ولا تقدم أي جديد على الأطلاق .. نفس الأسلوب .. نفس العبارات .. نفس الأفكار .. لا تطور على الإطلاق في كتاباته منذ أكثر من عشر سنوات .. وعندما اتصفح آراء القراء على الفيس بوك وعلى جودريدز أجد أن عددا مهولا من القراء يتفق معي في نفس الرأي .. أن نبيل فاروق فقد رونقه وبريقه ككاتب ولم يعد أسلوبه مشوقا وجذابا .. إذن فما كتبه ذلك الكاتب، المغضوب عليه، لم يكن بعيدا عن الحقيقة ولم يكن مجرد تجريح عبثي لكتابات نبيل فاروق .. لماذا إذن هذا الهجوم المسلح عليه الذي لم يتسم بالأدب في كثير من الأحيان بكل أسف .. بل إن معظم من هاجم ذلك الكاتب من القراء ارتكب نفس الخطأ الذي قيل إن ذلك الكاتب وقع فيه .. ألا وهو التجريح .. فمعظم من رد على ذلك الكاتب كان يجرح في شخصه بل ووصل الأمر ببعض السفهاء لاتهامه بأن كل أعماله الأدبية مسروقة، وكأنهم بهذا قد كسبوا المعركة!.. وأجدني أتذكر ذلك البيت الرائع لبشار بن برد: "لا تنه عن خلق وتأت بمثله .. عار عليك إذا فعلت عظيم" .. يعني أنتم تلومون على ذلك الكاتب أنه بذيء ويجرح في خلق الله، بفرض أن تلك هي الحقيقة، وتقعون أنتم في نفس الخطأ.
ومن تصفحي للفيس وجدت أن الردود سواء من القراء أو من الكتاب الشباب (اللي الصراحة بتزعلهم) وصلت إلى درجة من البذاءة تجعلني أشعر حقيقة بالخجل من أنني أنتمي للوسط الأدبي .. وفي الصورة التالية نموذج للمستوى الذي وصلنا إليه:

للأسف لقد أصبح المجتمع الأدبي يحترف البذاءة مثله مثل أرباب السوابق والجهلة وسائقي الميكروباص!
وأجدني استشهد بما كتبه أحمد عبد المجيد، صاحب ترنيمة سلام، في تلك المسألة : "... لهذا ليس على الكاتب أن يتدخل في آراء القراء بخصوص عمله، هم أحرار فيما يرونه ويذهبون إليه، تدخله في آرائهم بالتوضيح أو الإرشاد يعتبر تدخلًا فجًا من وجهة نظري..." .. والشيء بالشيء يذكر، فالدور الذي يلعبه أحمد عبد المجيد كمدير للنشر في دار الرواق، يجعلني اطمئن لجودة ما تطرحه تلك الدار من أعمال في سوق الكتب، وهو دور تتجاهله دور نشر كثيرة، فنجد في النهاية أعمالا ركيكة تغزو أرفف المكتبات .. وقد أوضح أحمد عبد المجيد في أحد البوستات على صفحته أنه تلقى عددا كبيرا من الأعمال يرغب أصحابها في نشرها بدار الروق، ووجد أن كثيرا من تلك الأعمال لا تتحمل أن تقرأ منها بضع صفحات لتدرك أنها غير صالحة للنشر بالمرة، وكان عبد المجيد مهذبا فلم يقل: نظرا لركاكاتها الشديدة.
الخلاصة أنني أرى أن اتهام أي قاريء أو كاتب أو ناقد بعدم الرقي أو بأنه "منفسن" أو"حاقد"، لمجرد أنه عبر بصراحة عن رأيه، هي تهم مقولبة وجاهزة يوجهها الكاتب للناقد وكأنه يحذره بل ويهدده حتى لا يقترب من عمله الأدبي وإلا فلا يلومن إلا نفسه .. فسيجد ذلك الناقد المسكين نفسه في مواجهة مع "بلطجية" الكاتب الذين لا يتورعون عن أي شيء، فمعظمهم هؤلاء البلطجية لم يتعلموا أدب الحوار ولا يجدون غضاضة في أن يسبونك علانية معلنين عن أصلهم الوضيع، ورفض الكاتب للرأي الآخر في رأيي إما ضعف شديد أو غرور شديد منه .. فمهما كان الكاتب بارعا ،إن كان حقا كذلك، فإن كتاباته لن تكون أبدا فوق النقد .. نجيب محفوظ نفسه لم يكن فوق النقد .. والتسليم بأن الرأي، الذي يكشف تلك الأعمال الركيكة ويضعها في حجمها الحقيقي، سيجعل القراء ينفرون من القراءة هي في رأيي فكرة ساذجة، وحجة سخيفة من الكاتب ليدفع عما يكتب انقضاضة من أحد القراء أو النقاد على عمله.
نصيحة أخيرة لكل كاتب، بضرورة أن ينظر للرأي الآخر/النقد باعتباره الطريق الأمثل ليطور أدواته ويتحول من كاتب ضعيف المستوى إلى كاتب من كتاب الصف الأول، لا بالمبيعات (فالبيست سيللر ليس مقياسا للجودة على الإطلاق) ولكن بجودة المضمون ورقي الأسلوب.
ومرة أخرى استشهد بما كتبه صاحب ترنيمة سلام على صفحته: "أخشى أن بعض القراء يحكمون على الأعمال الأدبية بحسب سمعة الكاتب وما يسمعونه عن الكتاب، فيتظاهرون بالاستمتاع بما لم يستمتعوا به، وفهم ما لم يفهموه ويدركوا قيمته.
لا أجد سوى هذا تفسيرًا منطقيًا لشخص يرى "الحرافيش" لنجيب محفوظ وفي نفس الوقت "سوسو يذهب إلى المدرسة" من قمم الأدب الإنساني، ويهتف في كل مكان بأنه لم يقرأ أروع من هذين العملين"
طبعا "سوسو يذهب للمدرسة" هي كناية عن الروايات ركيكة المستوى التي غزت أرفف المكتبات .. وللأسف ما كتبه أحمد عبد المجيد صحيح، وقد فسرت لي كلماته لماذا أعجب القراء برواية ضعيفة المستوى قرأتها مؤخرا .. هم لا يدركون الفرق بين عمل رفيع المستوى وعمل ضعيف المستوى .. وهو ليس ذنب القراء كلية .. بل هو ذنب منظومة تعليم فاسدة أفرزت أجيالا لا تفقه شيئا في جماليات الأدب .. أعيب على أدباءنا الشباب شيئا واحدا فقط .. هو أنهم يجاملون بعضهم زيادة عن اللزوم .. المجاملات عندما تزيد عن حدها في رأيي تصنع حالة من "الشللية" .. ولا تنزعجوا من المصطلح .. لكن أنت ككاتب عندما يجاملك صديقك –الكاتب أيضا- بشدة في شخصك وفي أعمالك الأدبية تجد أن من الصعب عليك فيما بعد أن تقول رأيك بصراحة في عمل من ابداع هذا الصديق لأنك تستحي أن تفعل هذا وتؤثر تجنب ابداء الرأي .. وهذا في رأيي غير صحي للوسط الأدبي .. لأنه يسهم بشكل غير مباشر في انتشار الأعمال الأدبية ضعيفة المستوى في ظل وجود عدد كبير من القراء (مع احترامي الكامل لهم) لا يستطيعون القراءة والكتابة باللغة العربية بشكل صحيح!
واختم مقالي بتوجيه الشق الأعظم من اللوم لدور النشر التي يبدو أنها لا تمرر الأعمال المقدمة إليها على لجنة لتقييم تلك الأعمال، واذا كان لديها لجنة للتقييم تجيز أعمالا بهذا المستوى الركيك فتلك مصيبة كبرى، بل كارثة، فوجود مثل تلك الدُور التي تستخف بعقل القاريء باتباعها نظرية الكم لا الكيف ستؤدي في النهاية إلى تكدس أرفف المكتبات بعدد مهول من الكتب منعدمة القيمة .. وهذا في حد ذاته كفيل بالقضاء على موجة القراءة التي ازدهرت مؤخرا .. وقد قلت من قبل إن أحد أصدقائي بدأ قراءاته بكتابين من الكتب المنتشرة، فكانت النتيجة أنه انقطع عن القراءة الأدبية من كم الرداءة الذي وجده في الكتابين، وعاد لقراءة مقالات الرياضة بصحيفة الأهرام واعتبرها بـ "رقبة مائة كتاب من كتب هذه الأيام" على حد تعبيره .. وعبثا حاولت إقناعه بأن الكتابين الذين قرأهما لا يمثلان كل الكتب وإنه لو بحث فسيجد كتبا جيدة .. لكنه كان قد وصل لقناعته بمقاطعة الكتب.
موجة انتشار الكتب موجة طيبة .. لكنها إن لم تفلتر نفسها مما هو رديء، فإنها بهذا ستقضي على موجة ازدهار القراءة ونعود مرة أخرى لنقطة الصفر.
د. مصطفى عمر الفاروق
تعليقات
إرسال تعليق