كرافته محمد فؤاد عيسى


جذبني غلافها عندما رأيتها على أحد الأرفف في عمر بوك ستور، ففكرت في شراءها .. ما حسم أمري هو كلمات أشرف العشماوي المشجعة على الغلاف الخلفي.

الرواية في مجملها "معقولة" اذا وضعنا في الاعتبار أنها العمل الأول للكاتب .. رواية بوليسية حاول الكاتب صياغة أحداثها في إطار من العلاقات والصراعات الاجتماعية ليكسبها عمقا و رُقِيا .. وقد وفق في هذا إلى حد كبير .. فلم تتحول الرواية إلى مجموعة من المطاردات البوليسية ومشاهد الأكشن فقط مثل روايات نبيل فاروق الأخيرة، ولكنها اعتدمت بشكل كبير على تطور الصراعات بين الشخصيات مثل ما نراه في روايات الكاتبة العظيمة أجاثا كريستي.

الكاتب متأثر بأسلوب السيناريو السينمائي .. نلحظ هذا من الصفحة الأولى في تعمقه في وصف العلاقة الوطيدة بين البطل والنيل .. لكن تأثره بأسلوب السيناريو زاد أحيانا عن الحد مما أسقطه في فخ المباشرة والإسهاب الممل في وصف تفاصيل مرئية لا تضيف للعمل ولا تساعد القاريء على الاندماج في جو الرواية.

البداية نفسها جاءت غير مشوقة .. وقد خالف الكاتب بهذا القاعدة الأساسية لأي رواية بوليسية خاصة إذا كانت من نوعية "من فعلها؟" .. فالمتابع لهذا النوع من أدب الجريمة يعرف جيدا أن مرحلة تصاعد الأحداث لا تتأخر كثيرا حتى لا يمل القاريء .. بل إن بعض تلك الروايات تضعك في قلب التشويق من الصفحة الأولى .. أما في كرافته، فقد واصلت القراءة بصعوبة حتى الصفحة الخمسين دون أن تبدو أي بادرة للتشويق وتصاعد الأحداث؟!

اعتمد الكاتب على تكنيك تقطيع الرواية زمنيا، لكنه لم يكن موفقا بنسبة كبيرة فجاء الانتقال بين "الفلاش باك" و"الفلاش فوروورد"، ضعيفا في بعض الأجزاء .. ولم يخدم الرواية بل أضر بالخط التصاعدي للأحداث، واذا كان الكاتب ينوي الاستمرار في الكتابة بهذا التكنيك فإنني أدعوه لقراءة الأعداد 18 و 19 و 20 من سلسلة المكتب 17 لمحمد سليمان عبد المالك حيث استخدم الكاتب هذا التكنيك بحرفية واتقان في تلك الثلاثية الرائعة التي ما زلت أذكرها حتى الآن.

عناوين الفصول لم تخدم العمل ولم تضف لعنصر التشويق .. فنجد مثلا أن الفصل الثاني عنوانه: "البداية" .. والفصل الرابع عنوانه: "أول الحكاية"؟! .. إلى هذه الدرجة تعجل الكاتب في وضع عناوين الفصول؟!

جاءت لغة الكاتب جيدة في بعض المواضع، وجاءت ضعيفة إلى حد الركاكة في مواضع أخرى .. أضع هنا بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر:

- ثم تغلق الباب بقوة فأحدثت صوتا كبيرا اهتزت له الشرفات، (فهل من البلاغة أن يوصف الصوت بالكبير؟) .. والأصح أن يقول: أغلقت الباب بقوة محدثة دويا اهتزت له الشرفات.

- جريمة قتل بتلك البشاعة والاغتصاب؟! (القتل قد يوصف بالبشاعة .. بالشناعة .. بالفظاعة .. لكنني أبدا لم أقرأ عن قتل يوصف بالاغتصاب؟)

- أيقن أن ذلك من الممكن أن يكون لها وقودا للاهتمام بالمنزل والأولاد؟! .. "أيقن" و "من الممكن" لا تجتمعان فـ "أيقن" تفيد التأكد بينما "من الممكن" تفيد الشك .. والأصح أن يقول: أيقن أن ذلك سيكون وقودا لها للاهتمام بالمنزل والأولاد.

- وقف مصطفى جمال وظهر عليه الانفعال واندفع الدم أسفل جلد الوجه؟! .. الدماء حين تندفع للوجه عند الغضب لا بد بالضرورة أن تمر على جلد الوجه، فلماذا لم يقل: وقف مصطفى جمال بادي الانفعال واندفعت الدماء إلى وجهه؟

- أسر كلامه ولم يعلنه إلى أذنها؟! .. أسَرّ كلامه تقتضي بالضرورة أنه لم يقله علانية، فما الحاجه لتكرار المعنى بعبارة "ولم يعلنه إلى أذنها" .. واذا تغاضينا عن التكرار فما الحاجة إلى ذكر إذنها .. فهو بالتأكيد لن يعلنه لفمها أو لعينيها؟! .. إلا اذا كان الكاتب يظن أن القاريء شديد الغباء فلزم عليه التوضيح!!!

- وشرد بينه وبين نفسه؟! .. وصف بها الكاتب حالة البطل وهو بمفرده في شقته .. الشرود لا يكون إلا بين الإنسان ونفسه .. فما بالك والرجل وحده في شقته .. فهل سيكون وحده ويشرد بينه وبين أحد آخر مثلا؟ .. يا أستاذ محمد فؤاد عيسى .. لا تستهن بذكاء القاريء .. ودعه يصل للمعنى بنفسه أرجوك.

وحتى البناء الدرامي للشخصيات جاء ضعيفا في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال شخصية عايدة التي أحبت سلمان حتى النخاع وتركت خلفها مملكة أبيها فاحش الثراء، لتتزوج حبيبها وتسكن معه في شقة 80 متر في حي شعبي .. ثم تقرر أن تعمل بعد شهرين من الزواج، فيبدي الزوج اعتراضه، لكنها تضرب باعتراضه حوائط شقة الزوجية، وتعمل رغما عنه، وبالرغم من أن الزوج يستسلم لقرارها منذ البداية إلا أنها تأدبه بمقاطعته أشهرا طويلة وكأنها لم تحبه يوما؟! تضارب غير منطقي وغير مقبول ويهدم بناء الشخصية من أساسه! لن أتحدث عن الأخطاء اللغوية والإملائية فهي أكثر من أن تحصى .. فقد أحصيت بنفسي 76 خطأ املائيا ونحويا في الخمسين صفحة الأولى!!! وأجدني أتساءل: ما هو دور المصحح اللغوي الموجود اسمه في الترويسة الداخلية للكتاب .. ماذا فعل بالضبط؟!!!

= = =

على هامش المقال ..

قرأت مقالا على الفيس بوك لعيد ابراهيم عبدالله يوجه فيه رسالة للنقاد وللكتاب الشباب .. أضع هنا الشق الموجه للكتاب الشباب لعلهم يستوعبوا ثقافة قبول الرأي الآخر:

لا بد أن تتأكدوا من أنكم طالما أنكم نشرتم عملا أدبيا فلا تتوقعوا أن يصفق لكم الجميع... فما من عمل كامل وما من كاتب امتلك ناصية البيان دون ان يتم تناول أعماله بالنقد والتحليل....
عندي لكم مجموعة تساؤلات....
هل نشرتم العمل ليقال عنكم كتاب فقط ويهلل الناس لكم ولا تتقبلوا أي رأي سلبي؟
هل لمجرد أنكم نشرتم أحد الأعمال الأدبية وحققت بعض النجاح وأصبح لكم مؤيدين وقراء وألتراس أن ترفضوا أي نقد يوجه لكم؟

هل اعتقدتم أنكم بلغتم أعلى درجات الإجادة في اللغة وتقنيات الكتابة للحد الذي يجعلكم تعتدون بأعمالكم وترفضون كل الآراء السلبية عليها... ومن ثم كل يحتكم إلى الألتراس الخاص به ونبدأ في التلاسن والتراشق? ما كل من ينتقد أعمالكم يضمر لكم شرا... وما كل ما تقدمونه هو فوق النقد .... ولن يذكر التاريخ أن فلانا كان يحقق اعلى المبيعات أو كان له ألتراس يدافعون عنه.... سيذكر التاريخ الكاتب الجيد فقط... الكاتب الذي أحدث نقلة في ذائقة القارئ الأدبية وساهم في تقديم منتج ثقافي أصيل بأفكار مبتكرة وغير مقتبسة... وإن كانت هناك فكرة مقتبسة فكونوا صادقين مع أنفسكم قبل الناس واعترفوا بأن الفكرة مفتبسة وأن التناول مختلف...


تحياتي لكم جميعا


د. مصطفى عمر الفاروق


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

غرف حنين لنسرين البخشونجي

أنثى بنكهة الكراميل في عيون النقاد

كنز القلعة - قصة قصيرة