ثقافة البيض بالبسطرمة




للأسف الشديد .. أصبحنا في زمن سيطرت فيه ثقافة البيض بالبسطرمة!! ولتوضيح هذا المصطلح لا بد وأن أعود قليلا للوراء. فقد كان المثقفون قديما حريصين على استقلالهم الفكري، مما أوجد بيئة تربوية قيمية وأخلاقية راقية. تلك البيئة حافظت على الأجيال الأولى من المثقفين من السقوط في حفرة التدني الثقافي. وأذكر من هؤلاء المثقفين على سبيل المثال لا الحصر: طه حسين ومحمد حسين هيكل .. ومن الجيل التالي لهما أذكر نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي، الذين شكلوا وجدان أمة بأكملها بإبداعاتهم الراقية.
لكن النظرة الفاحصة الآن للمثقفين والأدباء الموجودين على الساحة الأدبية، تكشف لنا أن هذا الإستقلال الفكري والرقي الأدبي لم يعد موجودا عند عدد كبير من هؤلاء المثقفين. بدأ هذا الإستقلال الفكري يتآكل ببطء مع بداية السبعينات.. ثم تسارعت وتيرة التآكل مع استمرار نظام مبارك الفاسد.. حتى تلاشت تماما الإستقلالية الفكرية لدى كثير من المثقفين. وأنتج هذا الوضع المتردي جيلا من المثقفين والأدباء الذين ينتمون إلى ثقافة "البيض بالبسطرمة" .. ليس هذا فحسب، بل إن النظام السابق استخدم بمنتهى الحنكة استراتيجيات جهنمية ليس فقط للإجهاز على استقلالية المثقف الفكرية؛ وإنما للقضاء على دوره الوطني في بناء مجتمعه وتشكيل وجدان أفراده.. والأمثلة على هذا كثيرة ويصعب حصرها وتحليلها هنا.
ولمّا قامت ثورة 25 يناير النبيلة وكللت بالنجاح، بدأ الأمل يراودني في عودة المثقفين إلى سابق عهدهم، من حيث التحلي بالفكر الأدبي الراقي. وانتظرت أن أرى بشائر تراجع الأدب الرديء واختفاء مثقفي "البيض والبسطرمة".. ولكن يبدو أنني كنت متفائلا أكثر من اللازم.. فمع الحرية التي منحتها الثورة لهذا الشعب، لم يعد هناك ضابط ولا رابط.. وأصبح كل من هب ودب يعتبر نفسه أديبا ويطبع بماله الخاص كتبا يسميها "قصصا قصيرة" أو "روايات" ... الخ .. وكأنما الأمر مثل إعداد ساندويتش كبده أو سجق!! ولا استبعد أن يأتي اليوم الذي نقرأ فيه عنوانا لكتاب مثل: بيض بالبسطرمة .. أو سجق وكبده .. أو كفتة ولحمة راس!!!
ماذا تركنا اذن للمغنيين من أصحاب الفن الهابط الذين يغنون للخيار والكوساء والعنب؟! ماذا تركنا لصانعي الأفلام الهابطة التي تحترف تقديم الابتذال احترافا؟! هل هو إفلاس فكري؟ في الغالب: نعم.
لم أكن أتوقع أبدا أن يتدنى المستوى الثقافي خاصة الكتابة الأدبية إلى ما تحت الحضيض.. وأن يطلق مثقفو "الكبده والسجق" على أنفسهم: أدباء.. إن هؤلاء يعانون من التسوس اللغوي والفكري.. فاللغة لأي شعب هي عصب الحياة الثقافية.. ولا يوجد تواصل بين أفراد مجتمع إلا وتكون اللغة ذات الدور الأكبر في توثيق هذا التواصل.. وبالتالي فإن الإعتزاز باللغة الأصيلة –وليس لغة البيض والبسطرمة- أمر حتمي لأي شعب يسعى للتقدم الثقافي والحضاري.
إن مظاهر الإنهيار اللغوي ليست فقط في كلمات أغنية أو في حوار سينمائي هابط.. ولكن هنالك أيضا مظاهر العجز في الإبداع، وهو ما أسميه أنا الإفلاس الفكري .. وهو ما يجعل تلك الفئة من أدباء الكبده والسجق يميلون إلى استخدام المفردات السطحية والعامية الرديئة كي تلقى نوعا من القبول لدى القراء لتزداد مبيعات كتبهم –كتب أكل العيش- في ظل الانحدار الثقافي.. والأهم من هذا كي يغطوا على هشاشة أفكارهم وموضوعات كتاباتهم الرثة والتي لم ولن تنقذها تلك المحاولات الرديئة من السقوط في بئر التفاهة والابتذال.



ما سبق هو النص الكامل للمقال الذي نشر بجريدة القاهرة عدد 9-أغسطس-2011



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

غرف حنين لنسرين البخشونجي

أنثى بنكهة الكراميل في عيون النقاد

كنز القلعة - قصة قصيرة