سقوط الوردة الأخيرة
سقطت الوردة الحمراء معلنة بداية رحلة نهاية الحياة .. سارع الفتى بالتقاطها .. تحسس بأصابعه نعومة ملمسها .. قربها من أنفه ينهل ما بقي من عبقها الذي يحبه .. رفع عينيه إلى أعلى .. لم يتبق سوى وردتان أخريان ، تصبح فروع الشجرة بعدها عارية تماما .. اتجه إلى الأريكة الخشبية التي اعتاد الجلوس عليها .. سبح ببصره في مياه النيل ذات اللون المميز وقد ارتفعت عن معدلها الطبيعي .. اقتحم وجهها مجال الصورة .. (هنادي) بنت الريس (عبد العال) صاحب أقدم عربة لبيع حمص الشام على امتداد الكورنيش .. تذكر كيف منعه من اللعب مع هنادي بعد أن ضبطهما في محاولة ساذجة لتلاقي الشفتين.
هنادي تحبه هو لا يشك في ذلك .. يتمنى أن يخلصها من ذلك الحظر الذي فرضه الريس عبد العال عليها .. يحلم باللحظة التي تعبث فيها أصابعه في خصلات شعرها الكستنائي الذي تصر أمها على تضفيره .. تذكر كيف اضطر لتعلم كيفية ضفر شعرها كي يتمتع برؤيته طليقا يتموج مع نسيم النيل .. قفز السؤال في ذهنه .. متى يكبر ليختطفها من والديها .. هنادي هي الكائن الوحيد الذي لا يمل من البقاء معه .. والانتظار يضاعف من أشواقه .. ولكن إلى متى !! بالأمس حلم بها .. وعندما استيقظ كانت في سرواله نداوة .. أتراه قد بال وهو نائم.
عاد ينظر إلى الوردة التي بدأتْ تفقد ما تبقى من نضارتها .. وجد نفسه يمارس لعبته اليومية .. يقطع وريقات الوردة واحدة فواحدة .. ومع الوريقات الفردية يردد " سنتزوج " .. ومع الورقات الزوجية يردد " لن نتزوج " .. إلى أن تفقد الوردة تاجها .. بدأت يداه تتحركان في لهفة .. سنتزوج .. لن نتزوج .. سنتزوج .. لن نتزوج .. سنتزوج ..إلى آخر وريقة .. ولم تمنحه الوردة موافقتها على الزواج .. ألقى بقايها جانبا في ضيق ..
قرر أن يعيد الكرة .. بدأ يهز جذع الشجرة الهزيل .. بقوة ثم بقوة أكثر وعيناه على الوردتين الصامدتين .. ظل يهز ويهز إلى أن سقطت إحداهما .. التقطها وعلى الفور بدأ لعبته .. لكن هذه الوردة انتهت به أيضا إلى عدم الزواج بفتاته .. اعتصر بقايها بعنف بين أصابعه قبل أن يلقيها جانبا .. لم يرض بالهزيمة .. لا يمكن أن يضيع منه حلم العمر .. عاد إلى الشجرة .. أخذ يهزها من جديد .. لكن الوردة الأخيرة ظلتْ متشبثة بلحظاتها الأخيرة في الحياة .. استلقى على الأرض بجوار الشجرة وهو يلهث من فرط التعب .
دار بعينيه في السماء عبر فروع الشجرة الجرداء إلا من تلك الوردة الأخيرة .. خالها تسخر منه .. زاده ذلك الشعور إصرارا على الحصول عليها .. وقعت عيناه على حصاة متوسطة الحجم .. التقطها وأرسل إلى الوردة نظرة تحد قبل أن يقذفها بالحصاة التي أخطأتها .. التقط حصاة أخرى وحاول أن يكون دقيقا .. لكنه لم ينجح تلك المرة أيضا .. التقط حصاة ثالثة .. استنفر كل ما تبقى من قوة في عضلات ذراعه وهو يقذفها مطلقا صيحة مدوية .. وسقطت الوردة الأخيرة .. ليسمع مع سقوطها صرخة تنم عن الألم .. على بعد بضعة أمتار منه .. أطلق الفتى ساقيه للريح وهو يرى نظرة الوعيد التي أطلت من عيني الرجل الذي أصابته الحصاة .. ولم ينس أن يلتقط الوردة قبل أن يواصل الهروب ..
د/مصطفى عمر الفاروق
2 / 4 / 2003

تعليقات
إرسال تعليق